الثلاثاء، 12 مارس 2019

1.1.2


أوليست الحياة سمكة
يمكن أن تصير طيراً
ب. ن.

على بعد حوالي المائة متر، انعطفت عربتنا باتجاه الوادي، وعلى الجانبين تمددت مجوعتين متقابلتين من البيوت الواطئة التي كانت تتلاصق على كل جهة أحيانا، وتتفرق أحياناً أخرى بممرات تقود الى مزارع صغيرة تلقي بنظراتها عبر تلك الازقة الضيقة الى الشارع. وكانت هناك بعض المحلات الصغيرة عديمة الشخصية تتناثر من وقت لأخر على الجهتين بين المباني ذات السقوف المستوية، التي تمتد حتى مجرى الوادي الجاف الذي يقسم المدينة بمحاذاة سوقها. ولم يكن هناك على الطريق ما يمكن أن يفصح شيئا عن هذه المدينة و سكانها العائدين في أصولهم لصحاري مجدبة مهلكة، و ممالك زائلة، ولا عن سكانها القدماء الغامضين. وفي الحقيقة، فانه لمن الصعوبة اعطاء وصف أكثر دقة لهذا المكان الذي كان شبيها بأمثاله في المدن المتوسطية الصغيرة، لكنه رغم كل شيء يهمنا لأنه المكان الذي بدأت فيه الاحداث.
ورغم أنه تتشابك في ذاكرتي وتتراكم احداث كثيرة عن ذلك اليوم الذي خرجت فيه من جوف امي، غير أني لن انسى مطلقا، ذلك الأمر الغريب والغامض الذي حدث عندما كنا في منتصف المسافة الى مجرى الوادي. حينها قال العربجي وهو يحاول أن يقطع حبل الصمت المخيم " اليوم مشمس وهادي " مخاطبا والدي، عندما برز بجوارنا فجاءة، وبلا مقدمات، فرس أسود عظيم يمتطيه فارس ملثم يرتدي عباءة سؤداء طويلة ما كنت شاهدت من قبل مثلها ابداً. أبي رد باقتضاب "هذا من حسن الحظ و أرجو أن يستمر ذلك" ، وقت أن أمسك الغريب الضخم، بجانب العربة القريب مني و أخذ يرمقني لوهلة بعينين ثابتتين مستديرتين تماما، ظاهرتين من ثقبين في غطاء رأسه الذي يشبه هرماً يستند على كتفين. أنا شعرت بالهلع و الذهول فأخرجت لساني قليلا محاولا أن أستلطفه، وسمعت جدتي تقول "الصغير جائع "، في الوقت الذي لاحظت رائحته المميزة التي تسللت حتى مسارب روحي. أما ما هو مدهش ايضا، أنه بعد ان تبينت انه برائحة البحر لكنها، ولا أعرف كيف يمكن أن افسر هذا بوضوح، "كانت عتيقة جداً بشكل ما"، خاطبني الغريب بصوت متقطع يبدو غير بشري تماما " أنت، أعرف أنك تفهمنى ". أمي التي كانت تبدو ساهمة ردت " لقد اقتربنا من البيت" ورمقت جدتي بنظرة مشفرة، بينما ظهرت ابتسامة باهتة على وجه أبي. أنا فوجئت بالرجل يخاطبني كبالغ، وهو ما أربكني، فمددت لساني، ورمقته في حذر بنظرة بلهاء عله يلاحظ، وان كنت شعرت بخوف يتملكني لعدم شعورالأخرين به. بعدها استنشق الفارس الهواء بقوة، وهز أربعة من أصابعه باتجاهي، كما لو كان يريد أن يطعنني بقفازه العتيق، وصاح " المخطوط !... المخطوط!" ثم سحب نفساً عميقا وأردف "سلم المخطوط في (ايتاكا)، فاخرجت لساني قليلا فلمعت عينا أمي.
ومن بين يدي جدتي أمكنني أن اتبين شكل رأس الرجل، وانتابني شعور لا يمكن وصفه عندما خمنت من يكون من تكوين جسمه ومن رائحته، انه "السمكة" ، و صحت به "ياجدي ... ياجدي" وأنا أرفس. وفي الحال ربتت علي جدتي بحنو محاولة تهدئة انفعالي الواضح. وفي تلك الاثناء، ثارت ريح شرقية بغته و بلا مقدمات، شاركتها عاصفة من الأوراق، فالتفت الرجل بقوة الى الخلف بوجل، حتى كاد قناعه أن يطير مع الريح، ونكز دابته عندما تناهي الينا صوت حوافر فرس هادر تعدو باتجاهنا مع حفيف الأشجار المتعالي، وقال في اللحظة الأخيرة " تذكر المخطوط، هل فهمت". كان في عينيه وقتها نظرة وداع فزعة، كنظرة سمكة تصارع للقفز من الهواء الى الماء. أما جدتي فلفت وجهي تماما لتحميني من الريح والأوراق المتساقطة، وشدتني الى حضنها بحزم، وأنا اصيح " جدي ... جدي"، وكل جزء من كياني يرتجف. وعندما القيت نظرة عبر طية في اللفافة من جديد، كان قد اختفى. ثم خيل لي كأني أسمع صوت سقوط جسم كبير في الماء، تبعه تك ... تك ... تك ... الصادرة عن حوافر حصان عربتنا، كايقاع ساعة قديمة تعمل منذ الأزل، وامتلأ المكان برائحة حليب طازج.
ومنذ ذلك النهار بدأ اتصال ما، بيني وبين شيء رهيب لا يخص هذا العالم الأرضي ... أو لعله جزء أخرمنه؟.
x

السبت، 16 فبراير 2019

1.1.1.



على أية نافذة وقفت
أراقب الزمن المدفون؟
ب. ن. 



من ذاك الزقاق، من رائحة الجدران المتغضنة الرطبة، و من ضوء العيون المتسائلة جبلت أنا. لو كان الأمر بيدي، لخرجت لأسير ، وأغني عبر الكون، لكن صدرت عني صرخة حادة، ماتزال تطاردني حتى اليوم، في بطون الكتب، و على  وقسمات وجوه أولادي. أما الراهبة التي تلقتني عاريا بيدين بيضاوين  فضحكت، وهي تسلمني لأمي التي احتضنتني بعينين عسليتين لامعتين كما ظلت تفعل دائما، حتى أعارتهما ذات يوم للنجوم.
من على الشباك المعدني لنافذة  ألعنبر الكبير الذي أخذوني اليه، كان ثمة عصفور ملون يتلصص ، طار فجاءة عندما هسهس في الجوار غصن مثقل. أبريل وجدتي والزمان كانوا في انتظارنا، وبعد العصر أحضر أبي معه العربجي.

"حظاً سعيداً" ... قالت راهبة اخرى وهي تودعنا بابتسامة.
"حظا سعيداً" ... رددت أمة من الطيور على جانبي الممر.



×××××××


أليست حياتنا نفقاً
بين وضوحين غامضين؟
ب. ن.

             قادتنا مجموعة من الاشجار  المصطفة على جانبي الممر بصبر إلى المدخل الحجري الكبير للمستشفى، تلاحقنا عيون متطفلة لقطتين عابثتين مسترخيتين على كرسي معدني. كنت أتامل السماء من خلال عيني النصف مغمضتين، مستمتعا باهتزاز ذراعي جدتي التي كانت تحملني ككنز ثمين. توقفنا لبرهة حتى عبرت سيارة نقل كبيرة من مخلفات الحرب الأخيرة، وبعدها أشار والدي الذي كان لايزال غير قادراً على أن يخفي اضطرابه لكي نعبر الطريق الصاعد، باتجاه عربة الحنطور التي كانت في انتظارنا . كان في عينيه نظرة من يستجمع ذكرى مبهمة لم يستطع تمييزها تماما، لكن صراخ دجاجة مذعورة عبرت الطريق بخطى سريعة مختلة، قطع حبل افكاره.

في الجهة الترابية المقابلة، إستقبلنا العربجي و كلب هزيل كان يتشمم بعض البقايا، هازاً ذيله وهو يتأمل مجموعة المختالين التي كانت ترافقني، أما حصان العربة فلم يكترث و واصل التحديق باتجاه الهضبة الجنوبية الواطئة، من حيث جاء اسلافي. أو لعله كان ينام بعينين مفتوحتين، مثلما تعودوا.  

و انطلقنا باتجاه المنزل على ايقاع تاك .. تاك.. تاك... الذي كانت تصدره حوافر الحصان بطريقة رتيبة، مما جعلني أستغرق في أفكاري الخاصة، مخرجا بين وقت وآخر طرف لساني قليلا مما كان يبعث علامات السعادة في مجموعتي الصامتة.